إنكشارية
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
إنكشارية
الجنود الجدد
لوحة زيتية تصور دورية إنكشارية تجوب الشوارع بريشة ألكسندر - جابرييل ديكامب في 1828
الإنكشارية (من التركية العثمانية: يڭيچرى، تعني: "الجنود الجدد" أو "الجيش الجديد") طائفة عسكرية من المشاة العثمانيين شكلوا تنظيماً خاصاً لهم ثكناتهم العسكرية وشاراتهم ورتبهم وامتيازاتهم، وكانوا أقوى فرق الجيش العثماني وأكثرها نفوذاً.
وتقرأ الكلمة على الصحيح "ينيجاري" فهي تكتب بالتركية: "يكني جاري" فقرأها الأزهريون: إنكشاري"، لأنهم لم يدركوا أن الكاف لا تلفظ، وأن الجيم هي "ch " باللغة الإنكليزية فقلبوها شيناً! فعمت الكتابات العربية الآن، في حين كان الناس يقرؤنها " الينيجارية ".[1]
شعار الإنكشارية
لا يعرف على وجه الدقة وقت ظهور هذه الفرقة، فقد أرجعها مؤرخون إلى عهد "أورخان الأول" سنة 1324 حين عرض عليه شقيقه الأكبر -وهو وزيره الأول أيضاً- علاء الدين فكرة مستشاره قره خليل ببرمجة أسرى الحروب من الغلمان والشباب وإحداث قطيعة بينهم وبين أصولهم، وتربيتهم تربية إسلامية، على أن يكون السلطان والدهم الروحي، وأن تكون الحرب صنعتهم الوحيدة.[2]
وتطور أسلوب جمع أفراد الانكشارية لدى سلاطين بني عثمان لاحقاً، إذ باتوا يؤخذون من الأسر المسيحية وفق مبدأ التجنيد الذي سمي بـ"الدوشرمه" (أو الدويشرمه) في عملية جمع دورية تجري كل سنة أو ثلاث أو أربع أو خمس، وتجلب عناصر انكشارية جديدة يقارب عددهم 8000 إلى 12000 فرد.[3]
ورغم ما عرف عن تسامح الدولة العثمانية مع رعاياها المسيحيين بمعايير ذلك الوقت، من حيث عدم إجبارهم على تغيير ديانتهم أو حرمانهم من ممارسة طقوسهم، طالما التزموا بدفع الجزية، غير أن نظام الدوشرمه ترك جرحاً غائراً في المجتمع المسيحي تحت مظلة السلطنة العثمانية، خاصة أن النظام يتضمن أخذ واحد من كل خمسة أبناء لكل أسرة مسيحية لتعزيز الانكشارية.[4]
واكتسبت الإنكشارية صفة الدوام في عهد السلطان مراد الأول سنة 1360، وكانت قبل ذلك تسرّح بمجرد الانتهاء من عملها. جرى حلّ هذه الفرقة بشكل نهائي بعد "الواقعة الخيرية" على يد السلطان محمود الثاني عام 1826 بعد ثورتهم على السلطان وانتهوا بحادثة مذبحة الإنكشارية.
من المعروف أن الإنكشارية كانوا عزاباً في عهد السلطان أورخان، ثم سمح لهم السلطان سليم بالزواج بشرط كبر السن، ثم أطلق حق الزواج.
وارتبط الإنكشارية بالطريقة الصوفية البكتاشية وذلك لأنه عند بداية تأسيس الإنكشارية صادف أن جاءإلى تركيا من خرسان رجل صوفي علوي النسب اسمه محمد بكتاش ولي، فسكن القرية التي تسمى باسمه اليوم بعد 180كم عن أنقرة.وقد حصل هذا الرجل على سمعة عالية وقصده الناس للتبرك به. وحين علم السلطان أورخان بأمره أراد أن ينتفع من بركته ليشمل بها جيشة الجديد، فقصده بنفسه ومعه أفراد من الجيش، فقام الحاج بكتاش بوضع يده على رأس أحد الجنود، وقطع شيئا من قبائه فجعله على رأس الجندي، ثم قدم لهم علماً أحمراً يتوسطه هلال وسيف ذي الفقار، وأخذ يدعو الله أن يبيض وجوههم وأن تكون سيوفهم بتارة وأن يفوزوا في كل غزوة بالظفر.
ومنذ ذلك الحين صار الجيش الإنكشاري مرتبطا بالطريقة البكتاشية ارتباطا وثيقا حيث اتخذ الجنود الحاج بكتاش شفيعا لهم ورمزا، وأخذ الناس يطلقون عليهم اسم أولاد الحاج بكتاش.
وكان هؤلاء الجنود يُختارون من سن صغيرة ويربون تربيةً عسكرية في معسكرات خاصه بهم، بالإضافة إلى تلقيهم مختلف العلوم الإنسانيه كالدين الإسلامي واللغه وغيرها، وفي أثناء تعليمهم يقسمون إلى ثلاث مجموعات: الأولى تعد للعمل في القصور السلطانية، والثانية تُعد لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة، والثالثة تعد لتشكيل فرق المشاة في الجيش العثماني، ويطلق على أفرادها الإنكشارية، أي الجنود الجدد، وكانت هذه المجموعة هي أكبر المجموعات الثلاث وأكثرها عددًا.
ومنذ نشأتهم التي تزامنت مع قيام الدولة، لم يكن الإنكشاريون يخرجون إلى الحرب إلا برفقة السلطان العثماني، وهو الأمر الذي أبطله سليمان القانوني حين أجاز لهم القتال تحت إمرة قائد منهم، وكان لذلك أثر في تقاعس السلاطين التالين عن الخروج إلى المعارك لقيادة الجيوش بأنفسهم.
[5]
معيشة الإنكشارية
كانت الدولة تحرص على منع اتصال الإنكشارية بأقربائهم، وتفرض عليهم في وقت السلم أن يعيشوا في الثكنات، التي لم تكن تحوي فقط أماكن النوم لضباطهم وجنودهم، بل كانت تضم المطابخ ومخازن الأسلحة والذخائر وكافة حاجاتهم المدنية.
خصصت الدولة لكل "أورطة" من الإنكشارية شارة توضع على أبواب ثكنتها، وعلى أعلامها وخيامها التي تقام في ساحة القتال، وجرت عادة الجنود أن ينقشوا شاراتهم المميزة على أذرعهم وسيقانهم بالوشم، وكانت ترقياتهم تتم طبقًا لقواعد الأقدمية، ويحالون إلى التقاعد إذا تقدمت بهم السن، أو أصابتهم عاهة تقعدهم عن العمل، ويصرف لهم معاش من قبل الدولة. وكانت الدولة تحرّم عليهم الاشتغال بالتجارة أو الصناعة حتى لا تخبوا عسكريتهم الصارمة، وينطفئ حماسهم المشبوب.
ويطلق على رئيس هذه الفئة "أغا الإنكشارية"، وهو يعد من أبرز الشخصيات في الدولة العثمانية، لأنه يقود أقوى فرقة عسكرية في سلاح المشاة، وكان بحكم منصبه يشغل وظيفتين أخرىين، فهو رئيس قوات الشرطة في إستانبول، المسؤول عن حفظ النظام واستتباب الأمن، وهو في الوقت نفسه عضو في مجلس الدولة.
وكان لرئيس الإنكشارية مقر خاص في إسطنبول، ومكاتب في الجهات التي تعمل الفرقة بها، ويختاره السلطان من بين ضباط هذا السلاح، وظل هذا التقليد متبعًا حتى عهد السلطان سليمان القانوني، الذي جعل اختيار رئيس الإنكشارية من بين كبار ضباط القصر السلطاني، وذلك للحد من طغيان هذه الفرقة.
Alpha مصطفى كمال، اتاتورك في وقت لاحق، في لباس موحد للالإنكشارية في صوفيا
أهمية الإنكشارية
عرف الإنكشاريون بكفايتهم القتالية ووفرتهم العددية، وضراوتهم في الحرب والقتال، وكانوا أداة رهيبة في يد الدولة العثمانية في حروبها التي خاضتها الدولة في أوروبا وآسيا وإفريقيا، وكان لنشأتهم العسكرية الخالصة وتربيتهم الجهادية على حب الشهادة واسترخاص الحياة أثر في اندفاعهم الشجاع في الحروب واستماتتهم في النزال، وتقدمهم الصفوف في طليعة الجيش، وكانوا يأخذون مكانهم في القلب، ويقف السلطان بأركان جيشه خلفهم. وقد استطاعت الدولة العثمانية بفضل الله ثم هذه الفرقة الشجاعة أن تمد رقعتها، وتوسع حدودها بسرعة، ففتحت بلادًا في أوروبا كانت حتى ذلك الوقت خارج حوزة الإسلام.
وقد أشاد المؤرخون الغربيون بهذه الفرقة باعتبارها من أهم القوات الرئيسية التي اعتمدت عليها الدولة في فتوحاتها، فيقول "بروكلمان" المستشرق الألماني: "إن الإنكشارية كانوا قوام الجيش العثماني وعماده". ويضيف المؤرخ الإنجليزي "جرانت" بأن المشاة الإنكشارية كانوا أكثر أهمية من سلاح الفرسان، وكان مصير أو مستقبل الدولة العثمانية يعتمد إلى حد كبير على الإنكشارية.
من اسلحة الانكشارية
طغيان الإنكشارية
غير أن هذه الأهمية الكبيرة لفرقة الإنكشارية تحولت إلى مركز قوة نغص حياة الدولة العثمانية، وعرضها لكثير من الفتن والقلاقل، وبدلاً من أن ينصرف زعماء الإنكشارية إلى حياة الجندية التي طُبعوا عليها –راحوا يتدخلون في شؤون الدولة، ويزجون بأنفسهم في السياسة العليا للدولة وفيما لا يعنيهم من أمور الحكم والسلطان؛ فكانوا يطالبون بخلع السلطان القائم بحكمه ويولون غيره، ويأخذون العطايا عند تولي كل سلطان جديد، وصار هذا حقًا مكتسبًا لا يمكن لأي سلطان مهما أوتي من قوة أن يتجاهله، وإلا تعرض للمهانة على أيديهم.
وقد بدأت ظاهرة تدخل الإنكشارية في سياسة الدولة منذ عهد مبكر في تاريخ الدولة، غير أن هذا التدخل لم يكن له تأثير في عهد سلاطين الدولة العظام؛ لأن قوتهم كانت تكبح جماح هؤلاء الإنكشاريين، حتى إذا بدأت الدولة في الضعف والانكماش بدأ نفوذ الإنكشاريين في الظهور، فكانوا يعزلون السلاطين ويقتلون بعضهم، مثلما فعلوا بالسلطان عثمان الثاني حيث عزلوه عن منصبه، وقتلوه سنة 1622، وفعلوا مثل ذلك مع السلطان إبراهيم الأول، فقاموا بخنقه سنة 1648، محتجين بمعاداته لهم، وامتدت أفعالهم إلى الصدور العظام بالقتل أو العزل.
ولم يكن سلاطين الدولة في فترة ضعفها يملكون دفع هذه الشرور أو الوقوف في وجهها، فقام الإنكشاريون بقتل حسن باشا الصدر الأعظم على عهد السلطان مراد الرابع سنة (1042هـ=1632م)، وبلغ شأوهم حد مطالبة السلطان سليم الثاني بقتل شيخ الإسلام والصدر الأعظم وقائد السلاح البحري، فلم يجرؤ على مخالفتهم، فسمح لهم بقتل اثنين منهم، واستثنى شيخ الإسلام من القتل؛ خوفًا من إثارة الرأي العام عليه.
محاولة إصلاح الفيالق الإنكشارية
لما ضعفت الدولة العثمانية وحلت بها الهزائم، وفقدت كثيرًا من الأراضي التابعة لها، لجأت إلى إدخال النظم الحديثة في قواتها العسكرية حتى تساير جيوش الدول الأوروبية في التسليح والتدريب والنظام، وتسترجع ما كان لها من هيبة في أوروبا، وتسترد مكانتها التي بنتها على قوتها العسكرية. لكن الإنكشارية عارضت إدخال النظام الجديد في فيالقهم، وفشلت محاولات السلاطين العثمانيين في إقناعهم بضرورة التطوير والتحديث، ولم تنجح محاولات الدولة في إغرائهم للانضمام إلى الفرق العسكرية الجديدة، وقبول المعاش الذي تقرره الدولة لمن يرفض هذا النظام.
ولم يكتف الإنكشاريون بمعارضة النظام الجديد، بل لجئوا إلى إعلان العصيان والتمرد في وجوه السلاطين والصدور العظام، ونجحوا في إكراه عدد من السلاطين على إلغاء هذا النظام الجديد.
محمود الثاني يلغي الفيالق الإنكشارية
بعد تولي السلطان محمود الثاني سلطنة الدولة العثمانية سنة 1808 أيد تطوير الجيش العثماني وضرورة تحديثه بجميع فرقه وأسلحته بما فيها الفيالق العسكرية، فحاول بالسياسة واللين إقناع الإنكشارية بضرورة التطوير وإدخال النظم الحديثة في فرقهم، حتى تساير باقي فرق الجيش العثماني، لكنهم رفضوا عرضه.
فحاول أن يلزم الإنكشارية بالنظام والانضباط العسكري، وملازمة ثكناتهم في أوقات السلم، وضرورة المواظبة على حضور التدريبات العسكرية، وتسليحهم بالأسلحة الحديثة، وعهد إلى صدره الأعظم مصطفى باشا البيرقدار بتنفيذ هذه الأوامر. غير أن هذه المحاولة لم تنجح وقاوموا رغبة السلطان وتحدوا أوامر الصدر الأعظم، وقاموا بحركة تمرد واسعة وثورة جامحة كان من نتيجتها أن فقد الصدر الأعظم حياته.
لم تنجح محاولة السلطان الأولى في فرض النظام الجديد على الإنكشارية، وصبر على عنادهم، وإن كانت فكرة الإصلاح لم تزل تراوده، وازداد اقتناعًا بها بعد أن رأى انتصارات محمد علي المتتابعة، وما أحدثته النظم الجديدة والتسليح الحديث والتدريب المنظم في جيشه، وطال صبر السلطان ثمانية عشر عامًا حتى عزم مرة أخرى على ضرورة إصلاح نظام الإنكشارية؛ فعقد اجتماعًا في (19 من شوال 1241هـ=27 أيار/مايو 1826) في دار شيخ الإسلام، حضره قادة أسلحة الجيش بما فيهم كبار ضباط فيالق الإنكشارية، ورجال الهيئة الدينية وكبار الموظفين، ونوقش في هذا الاجتماع ضرورة الأخذ بالنظم العسكرية الحديثة في الفيالق الإنكشارية، ووافق المجتمعون على ذلك، وتلي مشروع بإعادة تنظيم القوات الإنكشارية، وأصدر شيخ الإسلام فتوى بوجوب تنفيذ التعديلات الجديدة، ومعاقبة كل شخص تسول له نفسه الاعتراض عليها.
نهاية فيالق الإنكشارية
غير أن الإنكشارية لم يلتزموا بما وافق عليه الحاضرون في هذا الاجتماع؛ فأعلنوا تمردهم وانطلقوا في شوارع إسطنبول يشعلون النار في مبانيها، ويهاجمون المنازل ويحطمون المحلات التجارية، وحين سمع السلطان بخبر هذا التمرد عزم على وأده بأي ثمن والقضاء على فيالق الإنكشارية، فاستدعى السلطان عدة فرق عسكرية من بينها سلاح المدفعية الذي كان قد أعيد تنظيمه وتدريبه، ودعا السلطان الشعب إلى قتال الإنكشارية.
وفي صباح يوم 9 من ذي القعدة 1241هـ=15 حزيران/يونيو 1826 خرجت قوات السلطان إلى ميدان الخيل بإستانبول وكانت تطل عليه ثكنات الإنكشارية، وتحتشد فيه الفيالق الإنكشارية المتمردة، ولم يمض وقت طويل حتى أحاط رجال المدفعية الميدان، وسلطوا مدافعهم على الإنكشارية من كل الجهات، فحصدتهم، بعد أن عجزوا عن المقاومة، وسقط منهم ستة آلاف جندي إنكشاري.
وفي اليوم الثاني من هذه المعركة التي سميت بـ"الواقعة الخيرية" أصدر السلطان محمود الثاني قرارًا بإلغاء الفيالق الإنكشارية إلغاءً تامًا، شمل تنظيماتهم العسكرية وأسماء فيالقهم وشاراتهم، وانتهى بذلك تاريخ هذه الفرقة التي كانت في بدء أمرها شوكة في حلوق أعداء الدولة العثمانية.