المسلمون والكشوف الجغرافية
د. راغب السرجاني
14/01/2009
لم تكن النهضة الجغرافية الإسلامية لتظهر لولا جهود مضنية -بعد توفيق الله - قام بها العديد من العلماء الأفذاذ الذين مرَّ بنا نبأ بعضهم في مقالات سابقة؛ ولم تكن جهود أولئك العلماء حبيسة الجدران، ولا أسيرة خيالات أو موروثات بالية، بل كان السير في الأرض والضرب في مناكبها طولاً وعرضًا، والنظر عن قرب إلى طبائعها في شتى البقاع، وملامح الحياة المتباينة فوق كل شبر منها.. كان كل ذلك هو الطابع المميز للدراسات الجغرافية عند المسلمين. ولا عجب؛ فالإسلام ينفِّر أتباعه من التعويل على الظن الذي {لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، ويدعو في أكثر من موضع إلى الاعتماد على الحق والبرهان: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111]، {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143].
استكشاف القارات
في آسيا:
كان أقصى ما يعرفه الإغريق عن شرقي آسيا هو منطقة (سيراداريا)، وهي أبعد ما وصل إليه "الإسكندر الأكبر" في فتوحاته (سنة 323 ق.م).. فلما جاء المسلمون تعدَّوْا هذه الحدود، وتمكنوا من عبور جبال (تيان شاه)، والتوغل مئات الأميال إلى الشرق منها، فوقعت كل مدن وسط آسيا كبخارى وسمرقند وفرغانة وكاشغر (وهي إحدى الولايات الصينية) تحت نفوذهم منذ عام (86هـ/ 705م). وقد انتشر الإسلام في هذه المناطق، وبقي فيها حتى يومنا هذا، وكان الخلفاء يرسلون الوفود إلى ملوك الصين والتبت وسائر آسيا يدعونهم إلى الإسلام.
وقد اكتشف المسلمون عن طريق أساطيلهم التجارية التي كانت تُبحِر من ميناء عدن إلى ميناء كانتون بالصين أن بحر الصين يتصل بالمحيط الهندي، كما اكتشفوا بحيرة (آرال) شمالي شرق قزوين، فوُضِعَتْ لأول مرة على الخرائط المأمونية في عهد المأمون باسم (بحيرة خوارزم). وقد زار "البيروني" (ت 440هـ/ 1048م) سيبيريا الشرقية، وكان أول من سَمَّى نهر أنجارا (الواقع شمال غرب بحيرة بيكال شرقيَّ سيبيريا). كما أنه عاش في الهند قُرابة عشرين عامًا؛ فأبدع في وصفها بما لم يسبقه إليه أحد، وذلك في كتابه (ما للهند من مقولة).
في أوربا:
لقد عرف المسلمون أوربا رغم تخلفها وخمولها الحضاري في ذلك الوقت؛ ففي عام (308هـ/ 921م) ذهب "ابن فضلان" رسولاً من قِبَل الخليفة العباسي "المقتدر" إلى بلاد البلغار في الفولجا (تطلق عند العرب على بلاد الصقالبة الروس، وعلى عاصمتهم التي تقع شرقي نهر الفولجا). كما وصف البيروني بلاد (الفرنج) وهم النرويج والإسكندنافيون، ووصف (بحر الثلج) وهو القطب الشمالي, كما عرفوا "بلاد الغال" وهي فرنسا. وقد عُثِر حديثًا على عملات إسلامية في كل من روسيا وإسكندنافيا تعود إلى العصر العباسي!!
في إفريقيا:
توقفت معلومات الإغريق والرومان في إفريقيا على البلاد الساحلية وحدها، أما قلب القارة السوداء فقد بقي غامضًا أمام العالم، حتى وصله المسلمون كتجار أو رحَّالة أو سفراء؛ فاستكشفوا القارة الغامضة، ونشروا الإسلام في السودان والسنغال والنيجر وغيرها، وكانوا أول من اكتشف مدغشقر. وقد وصلت مراكبهم من الأندلس والجزائر إلى الصومال وزنجبار وموزمبيق وجزائر الكومور. ويعدّ من إنجازات المسلمين السَبَّاقة أنهم أول من اكتشف منابع نهر النيل العظيمة قبل أن تصل إليها حملات الاستكشاف البريطانية بعدة قرون؛ فقد ذكر الرحالة البريطاني "ستانلي" أنه في رحلاته لاكتشاف منابع النيل قد وجد التجار العرب قد سبقوه, وأن القبائل الإفريقية تدين بالإسلام!!
الاكتشافات البحري
يعتبر اكتشاف "كريستوفر كولومبوس" لأمريكا عام 1492م، واكتشاف "فاسكو دي جاما" لطريق الهند البحري عام 1497م من أكثر الكشوف الجغرافية تأثيرًا في مجرى التاريخ الإنساني. وبالرغم من مرور ما يزيد على خمسمائة عام على هذَيْن الكشفين إلا أن الجدل لم يُحسم بعد حول أسبقيتهما..
* فهل كان "كريستوفر كولومبوس" ذلك البحّار الإيطالي هو أول مكتشف للسواحل الأمريكية بالفعل؟
* وما السر وراء انطلاق رحلته من إسبانيا التي كانت قد فرغت للتوِّ من القضاء على الوجود الإسلامي في أراضيها؟
* ألم يستفِد "كولومبوس" ومن معه من ملايين الوثائق العلمية والخرائط الإسلامية التي وضع الأسبان أيديهم عليها من ميراث الحضارة الإسلامية الطويل؛ فأحرقوا بعضها، واستولوا على البعض الآخر مما لم يظهر بعد ذلك إلا حديثًا في مكتبة الإسكوريال في مدريد؟
* وما حقيقة الأهداف التي حركت الكشوف البحرية الأوربية على نحو كثيف ومتزامن؟!
ستحاول السطور القادمة إلقاء الضوء على حقيقة هذا الأمر..
منذ أعلن المسلمون كروية الأرض، وأثبتوا ذلك بالبراهين الفلكية والحسابية، بدأت الإشارات تظهر في كتبهم إلى أنه لا بُدَّ من وجود جزر معمورة في الوجه الآخر من الكرة الأرضية لم تُكتشف بعد، وقد بُنيت هذه النظرية على أنه ليس من المعقول أن يكون أحد سطحي الكرة يابسة بالكامل بينما يغطِّي الماء الجانب الآخر؛ لأن هذا سيؤدي إلى اختلال توازن الأرض وانتظام دورانها.
وقد كان "البيروني" أول من أشار إلى هذه الحقيقة وبشَّر بها في كتبه، وبناء على هذه النظرية ابتدأت مغامرات الكشف الجغرافي التي جاء ذكرها في مخطوطات كبار الجغرافيين المسلمين، ومنهم المسعودي في كتابه (مروج الذهب)، والإدريسي في كتابه (نزهة المشتاق)، وغيرهما.
تقول أول إشارة إن بحارًا عربيًّا أندلسيًّا اسمه"خشخاش البحري" أبحر بسفينته من "لشبونة" إلى الغرب في بحر الظلمات (سنة 235هـ تقريبًا/ 850م)، وقد اكتشف في هذا البحر جزيرة مأهولة بالسكان، أحضر منها الهدايا إلى حاكم الأندلس "عبد الرحمن الثاني"، الذي كافأه بتعيينه أميرًا للبحرية الإسلامية. وقد استشهد هذا الرجل في معركة بحرية مع قرصان (الفايكنج).
قصة الفتية المغررين
أما الإشارة الثانية فتذكر أن جماعة من عرب المغرب الإفريقي قد خرجوا إلى بحر الظلمات نحو تلك الجزيرة، وكان ذلك في القرن (الرابع الهجري/ العاشر الميلادي)، ولم يعد أحد منهم ولم يسمع عنهم أي خبر. ثم يتلو ذلك قصة "الفتية المُغَرَّرين" الذين تحدث عنهم المسعودي والإدريسي، وتقول هذه القصة: إن ثمانية من الشباب العرب في مدينة لشبونة من عائلة واحدة من البحَّارة... قرروا المغامرة (في بحر الظلمات)؛ بحثًا عن تلك الجزر التي هلك من سبقوهم دون خبر عنها.. وأن أهل المدينة أطلقوا عليهم لقب (الفتية المغررين) نسبة إلى (الغُرَّة) أي (المقدمة)، وليس المغرورين نسبة إلى (الغرور) كما جاء في بعض المراجع؛ فمن ذلك ما ذكره المسعودي في كتابه (مروج الذهب) عن أخبار (من خاطر بنفسه في ركوبه -أي المحيط الأطلسي- ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا).
وعندما يورِد "الإدريسي" هذه القصة يذكر أن هؤلاء الفتية الثمانية عندما عادوا إلى الأندلس احتفى بهم أهل لشبونة، واستقبلوهم بالزينات والأفراح، وأطلقوا على الشارع الذي يسكنون فيه اسم (شارع الفتية المغررين)، كان ذلك في أواخر القرن العاشر الميلادي، ثم ظل هذا الاسم معروفًا بعد ذلك في لشبونة لمئات من السنين.
المسلمون واكتشاف أمريكا
كانت هذه صورة موجزة لما أورده جغرافيو الأندلس عن سبق العرب لاكتشاف أمريكا، يعضدها ما ذكره العالم المؤرخ اللغوي (الأب أنستاس الكرملي) من أن العرب قد وصلوا أمريكا من لشبونة قبل (كولومبوس) بفضل معرفتهم لتيار الخليج الحار في الأطلسي، فيقول: "سَبَقَ العرب سائر الأمم إلى معرفة هذا التيار وخواصه، وإلى حركته من المكسيك إلى إيرلندا وبالعكس".
على أن هناك إشارة تظهر في أقوال "كولومبوس" نفسه؛ حيث يذكر أنه كان يعتقد أولَ الأمر أن الهنود الحمر الذين رآهم في تلك الجزر لا بد أن يكونوا من سلالة العرب "الذين سبقوه"، كما قرأ في المخطوطات العربية. وقد قامت (الجمعية الجغرافية البريطانية) بإنتاج مسلسل تليفزيوني وثائقي بعنوان (المكتشفون)، وفيه حلقة مستقلة عن "كولومبوس" واكتشافاته، وهي تبين أنه قد اختار أحد رجاله الذين يعرفون اللغة العربية (لأنه مـن أصل عربي)، وبعث معه برسالة إلى ملك الهنود الحمر كُتِبَتْ باللغة العربية يقول فيها: "يا صاحب الجلالة، إن الملكة "إيزابيلا" ملكة إسبانيا وقشتالة تهديك السلام، وتطمع أن يكون بينها وبين بلادك علاقات صداقة".
خريطة بيري ريس وحيرة العلماء
غير أن أكثر تلك الإشارات إبهارًا وإثارة للدهشة هي تلك الخريطة التي اكتشفها المستشرق الألماني Kahle في مكتبة (طوب كابي سراي) بإسطنبول، ونشرها على العالم سنة 1929م بعد تحقيق علمي دولي استمر عدة سنوات.. فقد حيَّرت هذه الخريطة العلماء وأذهلت العالم، وهي من تأليف جغرافي تركي مسلم هو "بيري ريس" واسمه الكامل "محيي الدين بن محمد الريس" (ت 919هـ/ 1513م)، وكان أحد قادة البحرية في الأسطول التركي الذي كان سيِّد البحار في تلك الآونة. وهذه الخريطة تنقسم في الواقع إلى عدة خرائط مفردة؛ فهي تبين شرقي المحيط الأطلسي حيث السواحل الإسبانية والإفريقية الغربية، أما في غربي المحيط فأنت ترى القارة الأمريكية بسواحلها وجزرها وموانيها وحيواناتها، فضلاً عن سكانها الهنود الحمر الذين يرسمهم عراة وهو يرعون الغنم.
ويذكر المستشرق "كراتشكوفسكي" في كتابه (تاريخ الأدب الجغرافي العربي) تعليلاً لهذه الخريطة أنه لا بد أن يكون "الريس" قد بناها على أساس خرائط "كولومبوس"، التي ربما تكون قد سقطت في يده عندما انتصر الأسطول التركي على أسطول البندقية سنة 1499م، وأسر بعض سفنه. إلا أن هذا الرأي يلقى معارضة من كثير من الباحثين؛ لأن الخريطة بها تفاصيل لأماكن لم يعرفها "كولومبوس"، ولم يكن اكتشفها، ولكن هؤلاء الباحثين لم يقدِّموا تعليلاً بديلاً يكشف سر هذه الخريطة الغامضة.
اكتشاف القارة السادسة في القطب الجنوبي!!
إن أعجب ما في خرائط "بيري ريس" أنها عادت لتشغل العلماء بعد عصر رحلات الفضاء وتصوير الأرض من الأقمار الصناعية؛ فقد كان الاعتقاد الأول لدى علماء الخرائط في أمريكا وأوربا في القرن العشرين أن الخرائط غير دقيقة، وأن بها أخطاءً في الرسم، حسب أحدث معلوماتهم عن الشاطئ الأمريكي.. ولكنهم فُوجئوا بعد ظهور أول صورة مأخوذة من القمر الصناعي لهذه المناطق أن خرائط "محيي الدين الريس" أدق من كل ما عرفوه وتصوروه!! وأنها تطابق تمامًا صور القمر الصناعي، وأن معلوماتهم هي التي كانت خاطئة.
وعلى أثر ذلك عكف فريق من العلماء في وكالة الفضاء الأمريكية على إعادة دراسة الخرائط مقطعيًّا بعد تكبيرها عدة مرات، فكانت المفاجأة الثانية.. وهي أن "بيري ريس" قد وضع في خرائطه القارة السادسة في القطب الجنوبي والمسمَّاة Antarctica قبل اكتشافها بأكثر من قرنين!! كما أنه وصف جبالها ووديانها التي لم تكتشف حتى سنة 1952م.
دقة خرائط بيري ريس
يحكي الكاتب "إريك فون دانيكن" في كتابه "Chariots of the gods?" أن خرائط "بيري ريس" سُلِّمت إلى الدكتور "ماليري آرلنجتون" أستاذ الخرائط الجغرافية في الجامعات الأمريكية الذي قرَّر بعد فحص دقيق أنها تحتوي على كل الحقائق الجغرافية حول أمريكا، ولكنه شك في وجود خطأ أو عدم دقة في بعض الأماكن، فطلب الاستعانة بجغرافيي الأسطول الأمريكي الذين أظهرت دراساتهم أن خرائط "بيري ريس" قد نقلت الطبوغرافيا الداخلية للقارات (أي التضاريس) بدقة مذهلة؛ فتظهر فيها الجبال والأنهار والسهول وكأنما أخذت من الفضاء الخارجي!!
وفي سنة 1957م عكف فريق من علماء الجغرافيا بالمراصد الكبرى والبحرية الأمريكية على مزيد من دراسة خرائط "الريس"، وبعد دراسات على أجهزة متطورة وجدوا أن صوره عن القارة السادسة Antarctica صحيحة ودقيقة بدرجة مذهلة، حتى بالنسبة للمناطق التي لم يُستكمل اكتشافها في عصرنا الحاضر!! فالجبال على قارة القطب الجنوبي لم تُكْتَشَف حتى عام 1952م، فهي دائمًا مغطاة بطبقة سميكة من الثلوج بحيث إن اكتشاف وجودها على الخرائط الحديثة كان باستعمال أجهزة صدى الصوت Echo-Sounding apparatus.
والجدير بالذكر هنا أيضًا هو اهتمام وكالة الفضاء الأمريكية بمواصلة دراسة هذه الخرائط، حيث اتضح أنها تشبه تمامًا الصور المأخوذة للكرة الأرضية من مركبة فضائية أثناء مرورها فوق منطقة القارة القطبية الجنوبية، وهي صور تغطي مسافة (خمسة آلاف ميل)، فوجدوا تشابهًا مذهلاً بين صور القمر الصناعي وبين خريطة بيري ريس!!
كم هو مذهل تتبُّع جهود المسلمين في اكتشاف الأرض من حولهم! وكم هو باهر تصفُّح ثمار تلك الجهود! ويبقى -في الختام- أن نقرِّر أن استشعار خلافة الله في هذه الأرض لا بُدَّ أن يكون له أكبر الأثر في بعث تلك الحركة الهائلة للكشوف والرحلات الجغرافية، التي جابت أقطار المعمورة في تلك العصور البعيدة.
ولا بد -أيضًا- أن اهتداء المسلمين بكتاب ربهم قد كان له أكبر الأثر في هذا السير الفريد في جنبات الأرض، حيث يقول سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
د. راغب السرجاني